ثقافة في قسم "نظرة ما" لمهرجان كان: ثلاثة أفلام أخرى لافتة... بقلم الناقد طاهر الشيخاوي
بقلم الناقد طاهر الشيخاوي
"العصابات" أوّل فيلم طويل للمخرج المغربي كمال لزرق يمزج في تناغم كامل جنس الثريلر بالفيلم الاجتماعي، تركيبة جميلة وناجعة بين الإثارة السينمائية والمعالجة السوسيولوجية. بدأ يتأكد في بلاد المغرب (تونس والجزائر والمغرب وموريطانيا) هذا المنحى الصعب الذي فتح أبوابه عريضا فوزي بن سعيدي.
نحن بالدّار البيضاء ليلا: حسن لا شغل له، يتعاطى أنشطة مريبة في خدمة عصابات خطيرة بحثا على قوت والدته. هذه المرّة يُطلب منه اختطاف شخص. يضعوه في كيس ويتكلّف حسن بنقله في سيارة أعارها إياه صديق له لقضاء حاجته بشرط ارجاعها في أقرب وقت ممكن. عند وصوله إلى منزل رئيس العصابة يكتشف أن الرّجل فارق الحياة. من هنا تبدأ الحكاية : كيف التخلّص من الجثة ؟ يطلب حسن من إبنه عصام إعانته على ذلك، يقبل عصام على مضض وهو عاطل كذلك ولكن مشاريعه تتجه نحو مغادرة البلاد، وتنطلق الأحداث في مغامرة ليلية مثيرة في أحياء الدار البيضاء.

يغوص الفيلم في عالم الجريمة، تتوتر علاقة الابن بأبيه ومن خلال هذا التوتر يلتمس المشاهد الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية لحياة فئة من المجتمع بمختلف أجيالها. إلى جانب التحكم المذهل في نسق الفيلم واللعب على انتظار الجمهور كان أداء الممثلين رائعا ونخصّ بالذكر عبد اللطيف المستوري المتقمص دور حسن. المذهل أنهم غير محترفين يحملون على وجوههم سمات البؤس والشقاء في تلك الأحياء. نشأة مخرج يمكن أن يقدّم الكثير. تحصّل الفيلم على جائزة لجنة التحكيم بقسم "نظرة ما" وكان أهلا لها.
بالوجي مغني راب كنغولي بلجيكي مشهور قدم إلى كان بفيلم Augure
فيلم Augure تم اختياره في قسم "نظرة ما" التي اتسمت هذه السنة، كما سبق أن قلنا، بحضور عربي افريقي غير مسبوق. نال الفيلم استحسان النقاد وتحصّل على جائزة "صوت جديد". يعود كوفي إلى بلده قادما من الكونغو رفقة زوجته البلجيكية الحامل بتوأمين بمناسبة عيد الفصح حتى يتعرف أهله على قرينته، إلّا أن الاستقبال لم يكن بالحرارة المرجوّة. وكانت والدته نبذته فيما مضى لأنه يحمل علامة زابولو أي السحر. وما زاد في فتور الاستقبال أنه رعف دون أن يشعر فسالت قطرة دم من أنفه وهو يحمل بين يديه ابنة أخته فوقعت على الرضيع.
الموضوع الأساسي هو هذه التقاليد التي ذهب ضحيتها كوفي وما ترتب عنها من توتر بينه وبن عائلته. كل ذلك له علاقة بحياة المخرج بالوجي (كلمة "بالوجي" تعني بالسواحيلية ساحر ورجل علم في صيغة الجمع) الذي غادر بلده في سن الثالثة منفصلا عن أمّه ثم عند رجوعه سنة 2018 لما توفي والده، تفاجأ بوجود نائحات كُلّفن بالبكاء مكانه؛ وقتها بدأ في كتابة الفيلم.

أمّا ما يميّز العمل فهو الجانب الفسيفسائي لأنه يتابع أربع شخصيات: كوفي وأخته تسهالة والشاب شيغي ووالدة كوفي، كلّ منهم يصارع حظه. ثم والأهم من ذلك النغمة العامة للفيلم الذي تحلّت فيه المسافة النقدية تجاه التقاليد بشيء من المزح وكثير من الشاعرية الغنائية، طابع ينعته بالوجي بالواقعية السحرية. عمل متفرد ومُنعش توفّق بالوجي في البعث فيه روح الفنان المتميز والمتعدد الخصائص.
في نفس القسم لا بد من ذكر الفيلم الإيراني لعلي رضا خاتمي وعلي أصغري Territorial verses
عنوان الفيلم يمكن ترجمته بالآيات الإقليمية وقد لفت انتباه عدد كبير من النقاد والصحافيين لطبيعة موضوعه ونمط إخراجه. لاحظنا في هذه الدورة تواتر الأفلام المبنية وفق جهاز معيّن، أي تركيبة شكلية تتكرر على طوال الشريط، أو على الأقل التشبث بأسلوب مميّز كـ"كذب أبيض" لأسماء المدير أو "استرويد سيتي" لـ"ويس اندرسون" أو حتى "محاكمة غولدمان" بطرق مختلفة وبدرجات متفاوتة.

الفيلم الإيراني ذهب بعيدا في هذا الاتجاه : تسع شخصيات تتوالى الواحدة تلوى الأخرى أمام الكاميرا تجيب على أسئلة مسؤول في الإدارة لا نراه أبدا لتبرير موقف يتعارض مع الأخلاق كما تراها النظام. يظهر الواحد تلوى الآخر في لقطة مشهد ثابتة لمدّة تسع دقائق.
رجل يتقدم لشباك مكتب تسجيل الولادات، اختار اسم دافيد لمولوده الجديد فيصطدم بجدار من الرفض وكم هائل من الأسئلة العبثية، تلميذة متهمة بمرافقة شاب على دراجته تطالبها المديرة بإلحاح شديد بالاعتراف بذلك، سائقة تاكسي شوهدت عارية الشعر إلخ. وضعيات مختلفة لتصرّف عادي يتعلق بالحرية الفردية لا يثير أي نوع من الاهتمام في مجتمع سليم حر. المشاهد لا تخلو من عبثية لا يمكن أن تثير إلاّ السخرية والغضب الهدف منها انتقاد سلطة قامعة لأبسط الحقوق الشخصية.
يقول مخرجا الشريط إنهما لم يطلبا رخصة تصوير ويعلمان أنهما متعرضان لردّ فعل النظام وإنهما مستعدان لتحمّل التبعات القانونية لعملهما لأنه من واجبهما المساهمة سينمائيا في موجة الاحتجاج ضد القهر. عمل يضاف لأعمال شاهدناها لدى سينمائيين مبدعين اختاروا كل بطريقته أساليب متنوعة لانتقاد السلطة فاتحين أفاقا جديدة في الخطاب السينمائي على حساب حريتهم كجعفر بناهي الذي قضى أخيرا سبع أشهر في السجن في قضية متهم فيها بالدعاية ضد النظام.